الميلاد في بيت لحم | Custodia Terrae Sanctae

الميلاد في بيت لحم

ترأس غبطة البطريرك فؤاد طوال بطريرك اللاتين في القدس وسائر الأراضي المقدسة قداس منتصف الليل في كنيسة المهد بمدينة بيت لحم بمناسبة عيد الميلاد المجيد وفق التقويم الغربي، بمشاركة الأساقفة ولفيف من الرهبان الفرنسيسكان والكهنة، في الليلة التي قسمت التاريخ الى قسمين، الليلة التي حملت إعلان البشارة المفرحة، في هذه الليلة يبدأ كل شيء"، هكذا بدأ غبطته عظته التي القاها بحضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس، رئيس الوزراء سلام فياض، وزير الخارجية الأردني ناصر جودة ممثلاً عن الملك عبد الله الثاني، وعدد من المسؤولين وسفراء الدول العربية والأجنبية، وكان هذا القداس بالتزامن أيضا مع قداس الحبر الأعظم الذي بدأ الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.
قال البطريرك طوال: "من هذا المكان المقدس، أدعوكم الليلة إلى مشروع مصالحة تشمل وطننا فلسطين وأرضنا المقدسة وشرقنا الأوسطي بكل بلدانه، ذاكرين في صلاتنا أخوة لنا يتألمون ويتشردون ويموتون في سوريا، ويكافحون من أجل الحرية والمساواة في مصر، ومن أجل الوحدة والمصالحة في لبنان والعراق والسودان وباقي دول المنطقة".
وفي اختتام القداس، حمل غبطة البطريرك تمثال الطفل يسوع الموجود تحت المذبح وسار به ضمن موكب بمرافقة جميع الكهنة والمحتفلين باتجاه مغارة الميلاد: حيث تم وضع تمثال الطفل يسوع اولاً على النجمة ومن ثم في المذود،. وهذه هي الليلة الوحيدة التي يتم فيها الاحتفال بالقداديس الالهية في المغارة طيلة الليل.

وفيما يلي النص الكامل للعظة التي ألقاها البطريرك طوال خلال القداس

سيادة الرئيس محمود عباس ورفقه الكريم،
معالي السيد وزير خارجية المملكة الأردنية الهاشمية ممثل جلالة الملك عبد الله الثاني والوفد المرافق له،
السيدات والسادة القناصل والسفراء وسائر ممثلي الدول والكنائس المختلفة،
أيها الأبناء المحبوبون القادمون من الأرض المقدسة،
إخوتي وأخواتي - أيها الحجاج الكرام،

أحييكم جميعاً من كنيسة المهد ومن مغارة الميلاد، حيث وَلَدَتْ العذراءُ المباركةُ طفلَها العجيب. وأحيي عبر شاشات التلفزة جميعَ أبناءِ ورعايا أبرشيتِنا في المهجر، وكلَّ الأخوة والأخوات المشاهدين لهذا الاحتفال الديني في كل أنحاء العالم.

نحتفل الآن بليلة الميلاد، الليلة التي قسمت التاريخ الى قسمين، الليلة التي حملت إعلان البشارة المفرحة، الليلة التي تحمل في طياتها أطياف ليال عظام ستتبعها كليلة خميس الأسرار وكليلة القيامة. في هذه الليلة يبدأ كل شيء. يبدأ مشوار التجسد والفداء.

وتستوقفنا هوية هذا الطفل العجيب. من ناحية انه طفل شبيه باطفالنا الذين نحبهم ونفرح بهم عندما نراهم ينمون ويتعلمون ويزدادون قامة وحكمة. ولد وعاش فقيرا وفرض على نفسه أن لا يتميز عنا بشيء، فعرف التعب والألم والبرد والجوع والعطش والخوف والتشرد والاضطهاد والذبح والموت: لأنه شاء أن يكون الانسان، أن يكون هو كل إنسان الاله القريب مشاركا البشرية افراحها واحزانها، امالها والامها. جاء وسكن بيننا، فخورا بأن يكون واحدا منا، قنوعا باللقمة التي نكسرها معه وبقطعة القماش التي نكسو بها جسده. ومن ناحية اخرى انه طفل لا كباقي الاطفال. فهو ابن ام بتول، ابن الانسان، كلمة الله ونفخة من روحه. هو عمانوئيل اي الله معنا. اليوم ترن في ذاكرتنا كلماتُ النبي أشعيا: "وُلِدَ لنا ولدٌ وأُعطيَ لنا ابنٌ فصارتِ الرئاسةُ على كتِفِهِ، ودُعيَ اسمُهُ عجيباً مُشيراً إلهاً جبّاراً، أبدَ الأبدِ، رئيسَ السّلام" (5:9-6)، عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة.

وتستوقفنا اسباب تجسده وولادته في بيت لحم. ولد من اجل الفقراء والمضطهدين والمتألمين، من اجل البسطاء الذين لم يفقدوا الرجاء بالسماء، من اجل الخطاة والاثمين. اراد ان يعيد للانسان انسانيته، وللخاطي صلاحه وصورته الالهية التي تشوهت بالخطيئة. جاء ليبسِّط الشرائع والقوانين، ويجعل من الدين يسرا لا عسرا, فلا يكون لأحد دين على الاخر الا المحبة والصفح المتبادل، لان الشريعة واحدة وهي: "أحبوا بعضكم بعضا". هذا هو حلم الطفل الصغير: أن يكون البشر كلهم اخوةً لان لهم وفوقهم ربّ واحد، هو أب حانٍ على الخلق اجمعين… لهذا أتى الى العالم… لهذا ولد بيننا. "جاء ليقضي للضعفاء بالعدل ويحكم لبائسي الارض بالاستقامة." جاء ليصالح السماء التي نزل منها مع الارض التي استضافته، جاء ليصالح الانسان الخاطى مع ربه وخالقه، والانسان مع اخيه، والفرد مع ذاته وليجعل من الاعداء اصدقاء. مصالحة كونية شمولية، حيث سيكون العدل والسلام نصيب جميع البشر. هذه هي المفاجأة الحلوة التي سمعها الرعاة: "إني أبشركم بفرح عظيم، وُلد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب. في مغارة بيت لحم تجدون طفلا مقمطا مضجعا في مذود".

أيها المؤمنون بالله، اذا كانت الانقسامات بين الاخوة هي من عمل الشيطان، فان المصالحة والتراضي هما من عمل الله. ومن هذا المكان المقدس، أدعوكم هذه الليلة الى مشروع مصالحة تشمل وطننا فلسطين وارضنا المقدسة وشرقنا الاوسطي بكل بلدانه، ذاكرين في صلاتنا اخوة لنا يتحاربون ويتالمون ويتشردون ويموتون في سوريا، ويكافحون من اجل الحرية والمساواة في مصر، ومن اجل الوحدة والمصالحة في لبنان والعراق والسودان، ومن اجل الاستقرار والعيش الكريم في الاردن وباقي دول المنطقة.

اخوتي وأخواتي الأعزاء، يطل علينا عيد الميلاد هذه السنة ايضا ونحن في غربة عن أنفسنا: ربما نكون بعيدين عن الله، بعيدين عن القريب، وبالتالي بعيدين عن روح الميلاد. تجتاحنا الهموم والمخاوف على حاضرنا ومستقبلنا وعلى أولادنا ومصيرهم، ونعيش في ظروف قاسية: احتلال لم ينته بعد، يستولي على أرضنا ولقمتنا ويصادر كلمتنا وماءنا وهواءنا. قلوبنا تعبة وهمومنا كثيرة. واهالينا في غزة مازالوا يضمدون جراحهم. وبيننا مَن فقد عزيزا غاليا في هذه السنة ودمعته لم تجف بعد! والاف الشباب قابعون في سجون الاحتلال ينتظرون الحرية. وما زال مبعدو كنيسة المهد بانتظار الرجوع الى ذويهم.

أيها الإخوة، في زمن الميلاد المجيد تكثر الصلوات والحسنات، والزيارات لصلة الأرحام، والعناية بالاطفال ولاسيما المحرومين والمعاقين والفقراء وأطفال المخيمات الذين لم ولن يعرفوا طعم العيد وفرحة الهدايا.

أمنيتي أن يمتدّ هذا الزمن وحسناته طيلة السنة، لصالح أبناء الوطن المحتاجين، اسوة بالرعاة الصالحين الذين توجّهوا إلى بيت لحم وايديهم مليئة بالهدايا وقلوبهم عامرة بالمحبة فسعدوا بمشاهدة الأسرة الطاهرة.

في عالمٍ يعتصرُه الألم، في شرقٍ يحاول أن يلملمَ شملَ أبنائه، ويوحّد أشلاء بلدانه، في وطنٍ تقدّست أرضُه بميلاد المسيح والانبياء، كما تقدَّست بإيمان جماعةٍ تعيش رجاءها متعطّشةً إلى السّلام الدائم، لا بدّ لنا اليوم من وقفةٍ صامتة، خاشعةٍ ومصلية امام المهد، بعيداً عن ضجيج العالم وقعقعة السلاح؛ وقفةٍ لا يُسمع فيها سوى صوتُ طفلِ بيت لحم يهمسُ في اذن كلّ واحدٍ منّا: "طوبى للودعاء فانهم يرثون الارض، طوبى لفاعلي السلام فانهم ابناء الله يدعون، طوبى للجياع الى العدل والبر فانهم يشبعون". ففي الانحناءة لتقبيل الطفل الصغير شموخٌ وعظمةٌ لكل المتواضعين والودعاء.

وأنتم، يا سيادةَ الرئيس، مع جلالة الملك عبدِ الله الثاني، أنتم في طليعة الذين يعملون من أجل السلام، ويجاهدون ويقدمون التضحياتِ الجسام. طوبى لكما! نحن نقابل هذه الجهودَ الجبارةَ، والمساعي المستنيرةَ بالدُّعاءِ والبركةِ والثناء. يُسعدنا أن نرى هذه المواقفَ الجريئةَ قد أثمرتْ وأينعت في المحافلِ الدَّوْليةِ فولدت الدولة الفلسطينية، تزامنا مع عيد الميلاد. لقد سمّوها دولة مراقب اي لا صوت لها، رغم أنَّ صوتَنا كان ولا يزال جرساً يرتفع وينادي بالعدل والسلام لكل شعوب المنطقة، جرسَ انذارٍ ووخزِ ضميرٍ لمن ماتت ضمائرُهم. والدولة التي لا حق لها بالتصويت، تنادي وتستنهضنا اليوم، إذ هي بحاجة لرجال وقادة وأبناء أوفياء مع روح انتماء وعطاء ووحدة.

يا طفلَ بيتَ لحم، يا من عرفتَ مِن قبلنا معنى البردِ القارسِ والفقرِ والهجرة، هرباً من هيرودسَ الطاغي، احمنا وخلّصنا من طُغاة الزمن، واجعل من كل واحدٍ منا مَقدِساً، تولدُ أنت فيه وتنمو، فنكونَ لك شهوداً.

أمنا العذراءُ مريم، يا من أغدقتْ حبَّها وعنايتَها على الطفل يسوع، احمي أولادنا من كل شر، وازرعي في قلوبهم بذور الخير والطيبة والصلاح.

أيها الأخوةُ الحاضرون هنا وفي العالمِ أجمع، أتمنى لكم عيدَ ميلادٍ سعيد


البطريرك فؤاد الطوال